الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
قال عبد العزيز: فأقبل علي المأمون فقال: حسبك يا عبد العزيز فقد ثبتت حجتك في هذه المسألة كثباتها في المسألة الأولى وانكسر قول بشر فيها، وبطل دعواه، فارجع إلى بيان ما قد انتزعت به واشرحه واذكر معانيه وما أراد الله به وما هو من الجعل مخلوق؟ وما هو غير مخلوق؟ وبيان الأعلام والشواهد، وما هو مخلوق، وما هو غير مخلوق، وما تتعامل به العرب في لغاتها وما تفرق به بين الجعلين في كلامها، ليسمع من في المجلس ذلك، ويقفوا على مذهب العرب في ذلك وما أراده الله عز وجل بقوله في ذلك.قال عبد العزيز: فقلت: يا أمير المؤمنين، إن جعل في كتاب الله عز وجل يحتمل معنيين عند العرب، معنى خلق، ومعنى صير غير خلق، فلما كان خلق حرفا محكما لا يحتمل معنى غير الخلق، ولم يكن من صناعة العباد لم يتعبد الله به العباد فيقول لهم: اخلقوا أو لا تخلقوا، إذ كان الخلق ليس من صناعة المخلوقين وكان من فعل الخالق سبحانه وتعالى.ولما كان جعل على معنى صير لا على- معنى الخلق خاطب الله به العباد بالأمر والنهي فقال: اجعلوا ولا تجعلوا، ولما كان جعل كلمة تحتمل معنيين معنى خلق ومعنى صير لم يدع الله في ذلك استباها على خلقه ولبسا على عباده فيلحد الملحدون في ذلك ويشبهون على خلقه كما فعل بشر وأصحابه حتى جعل على كل كلمة علما ودليلا فرق به بين الجعل الذي يكون على معنى الخلق، وبين الجعل الذي يكون على معنى التصيير، فأما الجعل الذي هو على معنى الخلق فإن الله عز وجل جعله من القول المفصل؛ أنزل القرآن به مفصلا وهو بيان لقوم يفقهون. والقول المفصل يستغني به السامع إذا أخبر به قبل أن توصل الكلمة بغيرها من الكلام إذ كانت قائمة بذاتها تدل على معناها، فمن ذلك قول الله عز وجل: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرض وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ}. فسواء عند العرب قال، وجعل، أو قال وخلق، لأنها قد علمت أنه أراد بهذا الجعل الخلق، لأنه أنزل من القول المفصل، وقال عز وجل: {وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً}.فعقلت العرب عنه أن معنى هذا وخلق لكم إذ كان قولا مفصلا. وقال تعالى: {وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ}، فعقلت العرب عنه أنه عنى بهذا الجعل الخلق، إذ كان من القول المفصل، وسواء عندها قال جعل أو قال خلق، لأنها قد علمت ما أراده وما عنى. ومثل هذا في القرآن كثيرا جدا، يا أمير المؤمنين، فهذا وما كان على مثاله من القول المفصل الذي يستغني المخاطب به والسامع له بكل كلمة عما بعدها.وأما جعل الذي هو بمعنى التصيير الذي هو غير خلق فإن الله عز وجل أنزله من القول الموصل الذي لا يدري المخاطب به حتى تصل الكلمة بالكلمة التي بعدها فيعلم ما أراد بها، وإن تركها مفصلة لم يصلها بغيرها من الكلام لم يعقل السامع لها ما أراد بها ولم يفهمها ولم يقف على معنى ما عنى بها حتى يصلها بغيرها.فمن ذلك قول الله عز وجل: {يَا داود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض} فلو قال: إنا جعلناك، ولم يصلها بما بعدها لم يعقل داود عليه السلام ولا أحد ممن سمع هذا الخطاب ما أراد الله به. ولا ما عنى بقوله لأنه خاطبه بهذا القول وهو مخلوق، فلما وصلها بخليفة في الأرض، عقل داود وكل من سمع هذا الخطاب ما أراد الله بقوله وما عنى به، وكذلك حين قال الله عز وجل لأم موسى: {أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} فلو لم يصل جاعلوه بالمرسلين لم تعقل أم موسى ما خاطبها به ولا ما عنى بقوله، إذ كان خلق موسى عليه السلام قد تقدم لرده إليها، فلما وصل الكلمة بالمرسلين عقلت أم موسى ما أراد بخطابها، وكذلك قوله عز وجل: {فَلَمَا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا} وقد كان الجبل قبل أن يتجلى له مخلوقا، فوصل الجعل بدكا، ولو لم يصله لم يعقل السامع له ما أراد الله بقوله، وكذلك قوله عز وجل: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} فلو لم يصل الكلمة وفصلها لم يعقل أحد كل من سمع ذلك ما أراد بدعوتهما، وكذلك قول إبراهيم: {رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَدًا آمِنًا} فوصله بآمنا، ولم لم يصله ما عقل أحد ممن سمع ذلك ما عنا بدعوته إذ كان بلد مكة مخلوقا قبل ذلك، فلما وصل بآمنا عقل السامع لذلك ما أراد إبراهيم عليه السلام بدعوته، ومثل هذا كثير في القرآن جدا يا أمير المؤمنين.والذي تتعارفه العرب وتتعامل به في لغاتها وخطابها ومعنى كلامها ومخارج ألفاظها هو الذي جرت به سنة الله عز وجل في كتابه إذ كان إنما أنزل بلسانها واكتتب على تبيانها فخاطبهم الله عز وجل بما عقلوه وعرفوه ولم ينكروه ولم يكونوا يعرفون سواه وهو القول الموصل والمفصل.فأرجع أنا وبشر يا أمير المؤمنين لما اختلفنا فيه من قول الله عز وجل: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً} إلى سنة الله في كتابه في الجعلين جميعا، وإلى سنة العرب أيضا وما تتعارفه وتتعامل به، فإن كان من القول الموصل فهو كما قلت أنا إن الله جعله قرآنا عربيا، بأن صيره عربيا_ أي_ أنزله بلغه العرب ولسانها، ولم يصيره أعجميا فينزله بلغة العجم، وإن كان من القول المفصل فهو كما قال ولن يجد ذلك أبدا، وإنما دخل الجهل على بشر ومن قال بقوله يا أمير المؤمنين لأنهم ليسوا من العرب ولا علم لهم بلغة العرب ومعاني كلامها، فتناولوا القرآن على لغة العجم التي لا تفقه ما تقول، وإنما تتكلم بالشيء كما يجري على ألسنتها، فكل كلامهم ينقض بعضه بعضا لا ينتقدون ذلك من أنفسهم، ولا ينتقده عليهم غيرهم لكثرته.قال عبد العزيز: وسمعت الأصمعي عبد الملك بن قريب، وقد سأله رجل أتدغم الفاء في الياء؟ فتبسم الأصمعي وقبض على يدي وكان لي صديقاً، فقال لي أما تسمع، ثم أقبل على السائل وهو يتعجب من مسألته وقوله فقال له: تدغم الفاء في الياء في لغة إخواننا بني الأنباء- بني ساسان- يقولون: كيصبحت، فيدغمون الفاء في الياء، أما العرب فلا تعرف هذا.قال عبد العزيز: فاشتد تبسم المأمون من قول الأصمعي ووضع يده على فيه. قلت: وهذا الذي يأتينا به بشر يا أمير المؤمنين من لغة أصحابنا بني الأنباء_ بني ساسان.فقال بشر: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك يذمنا ويكفرنا ويقول إنا نحرف القرآن عن مواضعه، وهو قد وضع قدر القرآن وشأنه وسماه بأنقص اسم ووصفه بأخس صفة واقلها ولقد خالف بقوله كتاب الله عز وجل وحرفه عن مواضعه لأن الله عز وجل سماه كتابا عزيزا، وسماه كريما، وأخبر عنه إنه تام كامل بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ}. وسماه عبد العزيز موصلًا ومفصلًا، فخالف كتاب الله تعالى وصفته وذم ما مدح الله لأن الموصل عند العرب والعجم وسائر الخلق دون التام الصحيح الكامل، إذ كان الموصل عندهم جميعا الملفق الذي قد وصل بعضه ببعض ولف بعضه ببعض. فإذا أراد الرجل من العرب وغيرهم أن يضع من قدر الشيء قال: هو موصل وليس هو صحيح، فقد سمى كتاب الله اسما ناقصا وقال فيه إثمًا وبهتانًا عظيمًا، ولو قلت أنا هذا وما هو دونه لكان قد خطب وتكلم واستغاث بأمير المؤمنين وأخرجنا عن الإسلام وهو يقول العظام ويحيل على العرب، وأمير المؤمنين أطال الله بقاه يحلم عنه بفضله وهو يتقوى بحلمه علينا.قال عبد العزيز: فقلت لبشر: وهذا أيضا من جهلك بما في كتاب الله عز وجل، تذمني وتزعم إني سميت كتاب الله اسمًا ناقصًا، وتغري بي أمير المؤمنين، وهو أعلم بما قلت وتكلمت مني ومنك وما قلت إلا ما قال الله عز وجل، وما نسبت إلا ما نسبه إليه وارتضاه له، وهو عند العرب الفصحاء كلام جيد صحيح مرتضى، وأنت تزعم أن كلام الله هو من ذاته مخلوق وتشبهه بكلام المخلوقين من الشعر وقول الزور وغيره، وتنكر عل أن سميته بما سماه الله تعالى به.فقال بشر: وأين سماه الله موصلا ومفصلا. قلت: في كتابه من حيث لا تفهمه ولا تعلمه فقال: هاته.قال عبد العزيز: فقلت: قال الله عز وجل: {وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فهذه تسمية الله عز وجل لكلامه ووصفه له بنص التنزيل لا بتأويل ولا بتفسير وهو الذي اختاره لنفسه ولكلامه وارتضاه له، وقال: {وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ} فامتدحهم بصلة ما وصل وأثنى عليهم في غير آية من كتابه ووعدهم على ذلك أحسن عدة وهي الجنة، وقال عز وجل: {أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ} فهذه مدحة الله وهذا ثناء الله، وهذا جزاء الله لمن وصل ما وصل. ولقد ذم الله عز وجل الذين قطعوا ما أمر الله بصلته وذمهم ولعنهم وجعلهم من الخاسرين فقال عز وجل: {وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ} فهذا ذم الله لمن قطع ما وصل الله وما أمر بصلته وهو وعيد الله لهم بالنار.ثم ذكر الله ما في القرآن من المفصل فقال عز وجل: {الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} وقال عز وجل: {حم تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناًعَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} وقال عز وجل: {كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} وقال: {قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ} فهذا قول الله عز وجل وهذه أخبار الله وهذه تسمية الله وهذه نسبة الله عز وجل لكلامه وهذا اختيار الله عز وجل لكتابه ولكلامه وهذا ما ارتضاه الله ورضي به من قائله.قال عبد العزيز: فأقبلت على أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين يزعم بشر أني سميت كتاب الله اسما ناقصا مذموما قال عبد العزيز: فأقبلت على أمير المؤمنين فقلت: يا أمير المؤمنين يزعم بشر أني سميت كتاب الله اسما ناقصا مذموما وإني ذهبت بقدره وسميته بما لم يسمه الله عز وجل، وإني أتيت بذلك إثما وبهتانا عظيما ويدعي علي الدعاوي وأنا حاضر معه، وإنما ينبغي له إذا تكلمت بشي يطالبني بإقامة الحجة والدليل على كل لفظة لفظت بها، فإن لم أفعل ذلك فليتكلم بما شاء ولقد أكذبه الله عز وجل في كتابه وذم قوله وأبطله بما أنزل الله في كتابه من ذكر الموصل والمفصل، وما قصد بشر يا أمير المؤمنين بقوله هذا إلا إلى تنقيص العرب كلها وذم كلامها ولغاتها، وما تتعامل به في خطابها، إذ كانت تسمي كلام الله تعالى موصلا ومفصلا، وتسمي كلامها مفصلا وموصلا، وتختار هذه الأسماء لكلامها وترتضيها، وهي عندنا جميلة حسنة صحيحة المعنى لا خلاف بينهم.قال بشر: ما تعرف العرب من هذا شيئا، وما أنت أعرف بلغة العرب مني، وكل شيء نسبته إلى العرب فهو مخالف لقولها ولغتها ومذهبها في كلامها.قال عبد العزيز: فأقبلت على المأمون فقلت: يا أمير المؤمنين أطال الله بقاءك أنت بيت اللغة وأعلم خلق الله بلغة العرب وكلامها وما تتعارفه وتتعامل به في خطابها وأنت الحاكم بيننا فإن أكن تزيدت على العرب منذ اليوم في ما حكيته عن العرب أو نسبته إليهم أو عدلت عن سنتهم أو حدث عنهم وعن مذهبهم وكلامهم وخطابهم ومخارج ألفاظهم فقد استحققت العقوبة من وجهين، أحدهما جرأتي على أمير المؤمنين أطال الله بقاه وقولي بين يديه، وحكايتي عن قومه ما يعلم خلافه مع علمي إنه أعلم خلق الله بذلك. والأخرى كذبي على سائر العرب وادعائي الباطل عليهم وأمير المؤمنين يشهد علي بكذبي وتزييدي وهو في حل وسعة من دمي ومن كل ما يعاقبني به، إن كان قد وقف على ذلك مني. وإن يكون بشر يا أمير المؤمنين قد تزيد في القول، وادعى علي الباطل كان أمير المؤمنين أعلا عينا بالرد عليه ومنعه من قول الزور والكذب.مذهبهم وكلامهم وخطابهم ومخارج ألفاظهم فقد استحققت العقوبة من وجهين، أحدهما جرأتي على أمير المؤمنين أطال الله بقاه وقولي بين يديه، وحكايتي عن قومه ما يعلم خلافه مع علمي إنه أعلم خلق الله بذلك. والأخرى كذبي على سائر العرب وادعائي الباطل عليهم وأمير المؤمنين يشهد علي بكذبي وتزييدي وهو في حل وسعة من دمي ومن كل ما يعاقبني به، إن كان قد وقف على ذلك مني. وإن يكون بشر يا أمير المؤمنين قد تزيد في القول، وادعى علي الباطل كان أمير المؤمنين أعلا عينا بالرد عليه ومنعه من قول الزور والكذب.فقال المأمون: ما قلت يا عبد العزيز منذ اليوم إلا ما تقوله العرب وما تتعارفه وتتعامل به، وما خرجت عن مذهبها، ولو عدلت عن ذلك ما سوغت لك الكذب عليها.قال عبد العزيز: فقلت: الله أكبر الله أكبر كذب بشر والله بشهادة أمير المؤمنين أطال الله بقاه_ لي عليه_ أفلحت ورب الكعبة أفلحت ورب الكعبة وظهر أمر الله وهم كارهون.قال عبد العزيز: فقال بشر وعلى الخلق أن يتعلموا لغة العرب وما تعبدنا الله بهذا، كل إنسان يقول بلغته وبقدر معرفته، وما كلف الله الخلق فوق طاقتهم، ولا طالب أولاد العجم بلغة العرب.قال عبد العزيز: فقلت لبشر: وكلف الله الخلق أن يتكلموا بما لا يعلمون حيث ادعيت العلم وتكلمت في القرآن العظيم وتأولت كتاب الله على غير ما عناه الله، ودعوت الخلق إلى إتباعك، وكفرت من خالفك وأبحت دمه، والله قد نهى الخلق جميعا فلم يحاش نبيا مرسلا ولا صديقا ولا عبدا مؤمنا أن يقولوا مالا يعلمون، فقال عز وجل لنبيه- صلى الله عليه وسلم-: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً}. وقال عز وجل لنوح عليه السلام: {فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} فقال نوح معتذرا إلى ربه معترفا بخطيئته مستغفرا منها: {قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} وقال تعالى: {هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاء الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاء تَأْوِيلِهِ وما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّهُ} يذمهم الله بهذا الخبر وذم فعلهم وطريقهم التي سلكوا، فقال بشر: أخطب حتى تشبع من الكلام ثم أخاطبك. قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين إن بشرا قد تحير في ضلالته، وعمي عن رشده، وبانت فضيحة قوله ومذهبه، وانقطع فما يأتي بحجة. فقال بشر:ما انقطعت ولا تحيرت ولا بانت فضيحة مذهبي، وأنا على بينة من أمري، وما دعوت الناس ولا أدعوهم إلا إلى سبيل الرشاد ولا أنا ولا هم إلا على سداد وكل من خالفني فكافر حلال الدم.قال عبد العزيز: فقلت يا أمير المؤمنين ما كان بقي على بشر غير هذا قد قال كما قال فرعون، ولجأ إلى سبيل فرعون فاتبعها وإلى سبيله فسلكها.فتبسم المأمون حتى وضع يده على فيه ثم قال: كيف قلت يا عبد العزيز؟ فأعدت عليه القول فازداد تبسمه ثم قال: كيف قال بشر ما قال فرعون ولجأ إلى سبيل فرعون؟ فقلت له: لما قرأت على بشر القرآن وأوضحت السبيل والبرهان ودللته على طريق النجاة، ونطقت بالحق الذي أنطقني الله به قال بشر إني لعلى بينة من ربي قال هو ما دعوت الناس إلا إلى سبيل الرشاد، وكذلك قال فرعون حين أنطق الله من وفقه لقول الحق قال عز وجل: {وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِف كَذَّابٌ يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأرض فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا} قلت: قال هذا المؤمن الحق الذي أنطق الله به لسانه وسدد به قوله وسمعه فرعون وقومه قال فرعون لقومه: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} وكذلك بشر يا أمير المؤمنين حين سمعني أقول الحق وفقني الله إليه وأنطق به لساني، فقال: إني لعلى بينة من ربي وما دعوت الناس إلا إلى سبيل الرشاد فأجاب بمثل ما أجاب به فرعون عند سماع الحق واتبع سبيله وما عدل عنها فبشر مرة يتبع سبيل الشيطان ويأمر بما أمر به الشيطان وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا} ومرة يتبع سبيل اليهود في تحريف القرآن عن مواضعه، وقد قال الله عز وجل: {مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ} إلى قوله: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللّهُ} وقال: {وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَآؤُوْاْ بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ} ومثل هذا كثير، ومرة يتبع سبيل الكفار في التسوية بين الناس وبين خلقه في خلق الأشياء، ومرة يتبع سبيل عبدة الأصنام في الحيدة عن الجواب وقد قال الله عز وجل: {وما كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ} ومرة يتبع سبيل فرعون والقول بمثل قوله وقد قال الله عز وجل: {وما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ} وقال عز وجل: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَا تَصِفُونَ} وقال عز وجل: {وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}.
|